الاجتماع الذي بدأت اعماله مساء اليوم (الخميس) في مقر حلف لناتو في بروكسل، ويشارك فيه وزراء دفاع وخارجية دول التحالف الستيني بقيادة الولايات المتحدة تحت عنوان “محاربة الدولة الاسلامية”، ربما يكون الاخطر منذ بدء الازمة السورية قبل خمس سنوات، لان امامه احد خيارين: فرض الحل السياسي بالقوة العسكرية، او الاستسلام بالكامل ورفع الرايات البيضاء، امام التقدم الكبير الذي حققه الروس وحلفاؤهم من الايرانيين والسوريين في جبهات القتال ضد قوات المعارضة السورية المسلحة.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يتصرف هذه الايام مثل “الثور الهائج”، وهو يرى معظم مخططاته، وربما احلامه، في السيطرة على سورية وتغيير نظامها على حافة الانهيار، بسبب الانقلاب الحادث في موازين القوى على الارض، واقتراب القوات السورية من السيطرة على حدودها مع بلاده، وقطع خطوط الامداد عن المعارضة التي يدعمها، وتدفق اكثر من سبعين الف لاجيء سوري جديد يطرقون ابواب معابر بلاده الحدودية بحثا عن ملاذ آمن، وتزايد احتمالات عودة مدينة حلب وجوارها الى سيطرة الحكومة السورية مجددا.
***
الرئيس اردوغان، وفي حالة غضب غير مسبوقة، اكد ان كلمة “اغبياء” ليست مرسومة على جبهات الاتراك، وهدد اوروبا باغراقها بعشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، اذا لم يتجاوبوا مع مطالبه المالية والسياسية، وقال ان الطائرات والحافلات جاهزة، و”سنقوم بما يلزم”، ولكن احد المحللين الاوروبيين قال ساخرا: لماذا ترسلهم الينا، ارسلهم الى حلفائك في السعودية والخليج فهم اولى بها.
السعوديون هذه الايام اكثر غضبا وقلقا من اردوغان نفسه، هم يرون تعهداتهم باجبار الرئيس الاسد على الرحيل عبر الحلول السياسية ما زالت بعيدة التحقيق، ولذلك لم يبق لهم الا الحل العسكري، ولهذا ارسلوا الامير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وزير الدفاع الى بروكسل لقيادة وفدهم حاملا عرضا بارسال قوات سعودية خاصة الى سورية، عبر البوابة التركية لانقاذ المعارضة، واقامة منطقة عازلة، وبدء العمليات البرية فورا.
الروس في المقابل “يناورون” ويريدون كسب الوقت، قبل القبول بوقف لاطلاق النار الذي يأتي كشرط لانجاح مباحثات جنيف المقبلة بين النظام السوري والمعارضة، لان الرئيس فلاديمير بوتين لديه ايمان راسخ بأن كل الجهود لقتال “الدولة الاسلامية” لا يمكن ان تنجح في سورية، او التوصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار، بدون اغلاق الحدود السورية التركية، وقطع الامدادات عن المعارضة السورية المسلحة، والجماعات الاسلامية المتشددة.
التدخل العسكري البري السعودي الخليجي في الازمة السورية مشروط بقيادة الولايات المتحدة له، وان يتم تحت مظلتها، ولكن الادارة الامريكية الحالية لا تريد الرضوخ للضغوط التركية والسعودية المتصاعدة، والتورط في حرب برية في سورية، وعبر عن هذا الموقف بصراحة الوزير جون كيري عندما قال مستنكرا لمعارض سوري استفزه في لندن “هل تريدني ان ادخل في حرب مع الروس من اجلكم؟”.
الايرانيون، ومثلما يتضح من تصريحات اللواء محمد علي الجعفري، اثناء تشييع احد ضباطه الذي قتل في سورية ربما “يتمنون” هذا التدخل البري السعودي الذي يعتبرونه “خطوة انتحارية”، وقال اللواء الجعفري ان اي صدام بين القوات السعودية والايرانية قد يكون بداية النهاية للحكم السعودي، فايران تعتبر سوريا ميدانها الحيوي، وكأنها تلعب على ارضها.
الروس والايرانيون عاقدون العزم على منع سقوط النظام السوري مهما كلف الامر، والى جانب تصريحات السيد وليد المعلم الذي يعتبر من “الحمائم”، واكد فيها ان الجنود السعوديين سيعودون في صناديق خشبية في حال دخولهم الاراضي السورية دون اذن حكومتها، وجرى تسريب انباء في مواقع استراتيجية قريبة من موسكو، تقول بانه تم التوصل الى اتفاق بين القيادتين الروسية والسورية “يقضي بدعم الاولى للثانية بالتصدي لاي قوات تخترق السيادة السورية فورا وبقوة ودون الرجوع للقيادات العليا”.
هناك نظريتان حول هذا الدفع السعودي المتصاعد باتجاه الحرب البرية في سورية: الاولى تقول بأن القيادة السعودية غير جدية، وتلوح بالقوات البرية كورقة ضغط للوصول الى حل سياسي يحسن شروطها، ويجبر الروس على التنازل في موضوع مستقبل الرئيس الاسد، لانه من الصعب خوض حرب في سورية دون حسم اخرى اهم في اليمن، والثانية: تؤكد ان السعودية جادة جدا في تفجير حرب مواجهة ميدانية في سورية، لانها لا تستطيع ان تتراجع بعد خمس سنوات من التدخل والتسليح وضخ المليارات وتعبئة الرأي العام السعودي والعربي اعلاميا، لان التراجع يعني خسارتها لهيبتها، ووحدتها الترتبية، وربما نظام حكمها ايضا.
ترأٌس الامير محمد بن سلمان شخصيا الوفد السعودي الى بروكسل يفسره الكثير من المراقبين على انه تمهيد لاعلان الحرب، وليس مؤشرا على المرونة، ولكن اللافت انه لم تعلن اي دولة من دول التحالف الاسلامي، باستثناء البحرين والامارات تأييدها للتدخل العسكري البري “السني” في سورية، وهذا امر يدعو للقلق، قلق السلطات السعودية طبعا.
القيادة السعودية لم تنجح في جر ايران، خصمها الاكبر الى حرب مواجهة مباشرة في اليمن، ولكن يبدو ان ايران، على ابواب نجاح آخر بجرها، اي السعودية، الى حرب استنزاف ثانية في سورية، ربما تكون اكثر تكلفة من الاولى لانها ليست محاذية لحدودها السعودية، وعلى ارض معادية لها، وتملك فيها ايران وحلفاؤها اليد العليا.
يمكن اختصار المشهد السوري في الايام والاسابيع القليلة المقبلة في ثلاثة سيناريوهات محتملة:
الاول: ان يؤدي هذا التصعيد باستخدام القوة الى نوع من المرونة، تؤدي الى انجاح العملية السياسية التفاوضية في جنيف بعد اسبوعين.
الثاني: ان تنجح المناورات الروسية في كسب الوقت، وبما يمكن الرئيس الاسد باستعادة حلب، واغلاق الحدود مع تركيا في وجه المسلحين وقطع خطوط امدادهم.
الثالث: ان تنجر الولايات المتحدة الى قيادة تحالف بري سعودي تركي يتصدى للتدخل الروسي ويقيم منطقة عازلة، ويعيد التوازن الى المعادلات العسكرية الميدانية، واحتمالات حرب كونية تصبح في هذه الحالة شبه مؤكدة، او بالاحرى حتمية.
التوصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار ربما يؤدي الى تجنب الصدام الكوني الاقليمي مؤقتا، وانهيار الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف، قد يفتح الابواب على مصراعيها امامه.
***
المداولات الحالية في بروكسل ليست لمحاربة “الدولة الاسلامية”، وانما لمحاربة روسيا، وهزيمة حلفائها واسقاط النظام في دمشق، فـ”الدولة الاسلامية” “فزاعة” يستخدمها الجميع، والا لماذا تذهب قوات برية سعودية لمحاربتها في حلب والرقة، وهي على بعد خطوات من قواتها وحدودها في عدن، والمكلا، وابين، ولم تطلق على تجمعاتها طلقة واحدة، وهذا ينطبق ايضا على تركيا، وعلى روسيا والنظام السوري ايضا.
نحن على اعتاب حرب طائفية سنية شيعية بمسميات مضللة.. وفوجئت قبل ايام بمن يتصل بي سائلا رأيي عن مفهوم “القومية السنية” التي باتت الفكر السعودي الجديد في مواجهة ما اسماه بـ”القومية الشيعية الفارسية”، وابلغني ان هناك دعما كبيرا لهذا التوجه ماليا وعقائديا.
نعرف من هو الخاسر من هذه الحرب اذا ما اشتعل أوارها، اي العرب والمسلمين جميعا، مثلما نعرف من هو الكاسب، وهو امريكا وروسيا واسرائيل والغرب عموما.